قصة مدينتين
ملخص قصة مدينتين
في إحدى ليالي الشتاء المظلمة عام 1775، كانت عربة البريد تتسلق طريقًا وعرًا، بينما كان المسافرون يمشون بجانبها لتخفيف العبء عن الخيول. فجأة، ظهر فارس غامض يبحث عن رجل يدعى شارل دارني، وهو شاب فرنسي وسيم. كان شارل عائدًا إلى إنجلترا بعد أن غادر فرنسا هاربًا من حياة النبلاء القاسية التي كان يرفضها بسبب ظلم عائلته. في إنجلترا، عاش حياة هادئة وعمل مدرسًا للغة الفرنسية، وسرعان ما وقع في حب فتاة إنجليزية تدعى لوسي مانت، وهي ابنة الدكتور مانت، الطبيب الذي كان سجينًا في سجن الباستيل لمدة 18 عامًا.
بعد فترة من السعادة، تزوج شارل من لوسي، لكن الأمور بدأت تتعقد عندما وصلت الثورة الفرنسية إلى ذروتها. فقد أرسل شارل رسالة من وكيل أعماله في فرنسا، تطلب المساعدة. رغم المخاطر الكبيرة، قرر شارل العودة إلى فرنسا لمساعدة وكيله، لكنه اعتُقل فور وصوله، لأنه كان من عائلة نبيلة مكروهة من الشعب الثائر.
في باريس، كان الثوار يسيطرون على المدينة، وكان الغضب يملأ الشوارع. حاول الدكتور مانت استخدام نفوذه كطبيب سابق في الباستيل لإنقاذ شارل، وأقنع الجماهير المتعطشة للدماء بإطلاق سراحه، ولكن الفرحة لم تدم طويلاً. بعد أيام قليلة، اعتُقل شارل مرة أخرى بفضل وشاية من السيدة دوفارج، وهي امرأة غاضبة كانت تخيط أسماء أعداء الثورة في نسيج صوفي، حيث كانت تسعى للانتقام لمقتل أخويها على يد عائلة شارل.
بينما كان شارل ينتظر حكم الإعدام، تدخل صديقه المخلص، سيدني كارتن. كان كارتن محامياً يعيش حياة يائسة، لكنه كان يحمل حبًا خفيًا وعميقًا للوسي. قرر سيدني التضحية بنفسه من أجل لوسي وعائلتها. قام بوضع خطة جريئة؛ زار شارل في سجنه، وخدعه لتبادل ملابسهما باستخدام مخدر قوي، ثم أخذ مكانه في الزنزانة، بينما هرب شارل مع عائلته إلى إنجلترا.
في يوم تنفيذ الإعدام، توجه سيدني إلى المقصلة بدلاً من شارل. كانت هناك فتاة صغيرة محكوم عليها بالإعدام أيضاً، طلبت منه أن يمسك بيدها أثناء صعودهما إلى المقصلة. بسلام ورضا، واجه سيدني مصيره، وهو يعلم أنه بفعلته هذه قد منح لوسي وأسرتها فرصة لحياة سعيدة وآمنة.
وفي آخر لحظاته، ردد سيدني لنفسه: “ما أفعله الآن هو أعظم من كل ما فعلته في حياتي، وما أشعر به من سلام يفوق كل ما شعرت به من قبل.” ثم أُسدل الستار على حياته، ولكن تضحيته ظلت ذكرى خالدة في قلوب الذين أنقذهم.
قصة مدينتين مكتوبة
كانت ليلة مكفهرة من ليالي تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1775. وكانت الجياد التي تجر عربة البريد تجاهد في صعودها إحدى التلال. وفوق العربة جلس حارس مسلح ببندقية قصيرة، وكان يراقب الطريق جاهداً خوفاً من قطاع الطرق، لكنه لا يرى أبعد من متر واحد. ازدادت مشقة الطريق، فنزل المسافرون من العربة لتخفيف الوزن وراحوا يخوضون في الوحل. فجأة، برز من الضباب فارس جاء يعدو بفرسه. صاح الحارس: “قف وإلا أطلقت النار!”. أجاب الفارس: “أريد مسافراً في عربتكم. أريد السيد جارفس لوري”.
تقدم أحد المسافرين وقال بشيء من القلق: “ما الأمر يا جري؟”، ثم التفت إلى الحارس قائلاً: “لا بأس، أنا أعرف هذا الرجل”. أنزل الحارس بندقيته، وأسرع المسافرون يخرجون ساعاتهم ونقودهم من أماكن اختبائها، بعد أن كانوا قد خبأوها خوفاً حين رأوا الفارس مقبلاً عليهم. سلم جري السيد لوري ورقة تقول: “انتظر الآنسة في دوفر”. وكان جواب السيد لوري على الرسالة غامضاً، قال: “جوابي هو: أُعيد إلى الحياة”. أسرع جري يقول بصوت أجش: “هذا جواب غريب!”. وقد كان فعلاً جواباً غريباً، كما سنرى.
لقاء في دوفر
في ردهة الفندق الصغيرة في دوفر، وعلى ضوء شمعتين طويلتين، التقى السيد لوري بفتاة فاتنة في السابعة عشرة من عمرها، ذات شعر أشقر وعينين حائرتين. تلك هي الآنسة التي كان عليه أن يلتقيها. كانت الفتاة الفاتنة هي لوسي مانت، ابنة صديق فرنسي قديم. كان السيد لوري قد حملها معه إلى إنجلترا وهي طفلة، وظلت طوال الوقت تعتقد أنها يتيمة.
كان على السيد لوري أن يخبرها الآن بأن أباها لا يزال حياً. فقد سُجن في سجن الباستيل المريع في باريس لمدة ثماني عشرة سنة، دون أن يعرف أحد مكانه. اكتُشف مكانه أخيراً وأُطلق سراحه. قال السيد لوري: “اكتُشف مكانه، لكنه تغير كثيراً. إنه حطام رجل. سنذهب إليه في باريس، وعليك أن تعيديه إلى الحياة”. نظرت لوسي بحيرة إلى الرجل الوقور، في بزته الرسمية وشعره المستعار المرتب، وتفكر في الخبر الصادم الذي أتاها به، والذي جاء كصدمة تركتها شاحبة ترتعش. أخيراً قالت بيأس: “لن أراه هو، بل سأرى شبحه!”
رحلة إلى باريس
كان على السيد لوري أن يسافر إلى باريس في أمر يتعلق بالمصرف الذي يعمل فيه. تمكن هو ولوسي من الوصول إلى أحد الأحياء البائسة الفقيرة، حيث تنتشر الروائح الكريهة، ويتجول أناس بملابس ممزقة وبطون جائعة يترقبون أي طعام ليأكلوه. حتى الحوانيت كانت تكاد تكون خالية من الطعام.
بينما كانا يعبران شارعاً مرصوفاً بالحجارة، سقط برميل من الشراب من عربة فانكسر. انقض الناس حالاً على الشراب المنسكب، يجمعونه في آنية أو حتى من الأرض بما تيسر لهم. تلطخت أفواههم باللون الأحمر، ما جعل مظهرهم مرعباً. تقدم رجل طويل منهم يعتمر طاقية نوم، وكتب على الجدار بإصبعه الملوث بالشراب كلمة: “الدم!”، وكانت تلك منطقة غليان تنذر باندلاع أحداث خطيرة.
لقاء في الحانوت
وصل السيد لوري ولوسي إلى حانوت يملكه رجل متين البنية قوي الملامح يُدعى السيد دو فارج. كانت السيدة دو فارج جالسة في مدخل الحانوت تغزل الصوف، دون أن يمنعها شيء من مراقبة كل ما يحدث حولها بعينين صغيرتين ثاقبتين. قال أحد زبائن الحانوت: “لا يذوق هؤلاء التعساء، عادة، شرابًا ولا غيره يا جاك، إلا الخبز الأسود والموت”. فرد آخر: “الحق معك، يا جاك”.
لاحظت لوسي أن الرجال ينادون بعضهم باسم “جاك”، ما أثار انتباهها وشعرت وكأن هناك كلمة سر بينهم. بدا على وجه السيد دو فارج الغضب، وملامحه كانت تعكس العنف والشراسة.
لقاء الأب المفقود
حين عرف السيد دو فارج أن الفتاة هي ابنة سيده القديم، أخذها إلى مخبأ سري يقع فوق الحانوت. هناك، في علية صغيرة خافتة الضوء، رأت لوسي شيخاً أبيض الشعر بالي الثياب منهمكاً في تصليح بعض الأحذية. لم تكن عينا الشيخ الكليلتان تتحملان ضوءاً أقوى من ذلك.
سأله السيد دو فارج عن اسمه، فأجاب بصوت واهن مضطرب، وكأنه لم يستعمله منذ زمن: “مئة وخمسة، البرج الشمالي”. كان هذا رقم زنزانته. بعد قليل، بدأ الشيخ ينظر في وجه لوسي وشعرها الذهبي وكأنما تذكر شخصاً يعرفه. سألها: “أنت ابنة السجان؟”. أجابت لوسي: “لا”.
سأل مجددًا: “من أنت؟”، ثم تناول خرقة وسخة معلقة حول عنقه بخيط، وفتحها، فإذا بها بضع شعرات ذهبية. اغرورقت عيناه بالدموع، فقد كانت هذه الشعرات أثراً من زوجته. تذكر السيد لوري الشبه القوي بين لوسي وأمها. اقتربت لوسي من الشيخ ومدت يدها إليه برفق وقالت: “جئت لأخذك إلى البيت، يا أبي، ولأعتني بك”.
الهروب من باريس
في تلك الليلة، قام السيد دو فارج ورفاقه بتهريب الشيخ وابنته والسيد لوري إلى خارج باريس، متجاوزين نقاط الحراسة. وخلال انطلاق العربة في الظلام، تساءل السيد لوري ما إذا كان الدكتور مانت سيستعيد ذاكرته وحياته السعيدة.
الحياة الجديدة في لندن
بعد خمس سنوات، في العام 1780، كانت قد مرت خمس سنوات على تلك الحادثة. لوسي ووالدها كانا يعيشان في أطراف مدينة لندن في مكان هادئ يُشرف على الريف الساحر. عاد والد لوسي إلى ممارسة مهنة الطب، وحظي باحترام عميق من الناس، لكنه كان لا يزال يحتفظ بعدة الإسكافي في غرفة علوية. وفي بعض الليالي، كانت تعود إليه هواجس أيام السجن، فينفرد في عليته، ويظل طوال الليل منهمكاً في تصليح الأحذية. كان القلق يستبد بلوسي حين ترى أباها على تلك الحال.
حماية لوسي من المتطفلين
كانت مدبرة المنزل، الآنسة برس، امرأة صارمة ذات شعر أحمر ووجه متورد. كانت تعتبر نفسها مسؤولة عن حماية الدكتور مانت وابنته، التي كانت تسميها “الفراشة”، من المتطفلين، وخاصة من الشبان الذين يحومون حول لوسي، منجذبين بجمالها ورقة معشرها.
محاكمة جاسوس فرنسي
كان جري كرانشر، خادم السيد لوري، يقوم بمهمة جديدة لسيده. هذه المرة، كان عليه أن ينتقل إلى محكمة أولد بيلي، حيث كان السيد لوري يؤدي الشهادة في إحدى المحاكمات. كانت أولد بيلي المحكمة التي يحاكم فيها المتهمون بالخيانة أو القتل، وكانت عادة تغص بالحضور. سأل جري الرجل الذي يجلس إلى جواره بصوت أجش قائلاً: “ما الخبر؟”
أجابه الرجل: “لم تبدأ الجلسة بعد.”
سأل جري: “من يحاكمون؟”
أجاب الرجل: “يحاكمون جاسوساً فرنسياً.”
قال جري: “لا بد أنهم سيقطعونه إذاً.”
رد الرجل بغبطة: “سوف يُجر على الأرض، ثم يقطعون رأسه، ثم يقطعونه إلى أربعة أرباع. هكذا سيكون الحكم.”
قال جري: “هذا إذا وجد مذنباً.”
أجاب الرجل: “لا تقلق، سيجدونه مذنباً!”
محاكمة شارل دارني
كان المتهم خلف القضبان يُدعى شارل دارني، وكان فرنسياً طويل القامة، يقف بوقار وجلال. كان ذا شعر أسود طويل مربوط خلف ظهره بشريط، ويرتدي ثياباً رمادية بسيطة. وكان وسيماً، داكن العينين، واتهم بالتجسس لصالح الملك الفرنسي. في مقعد المحامين، جلس رجل ذو شعر مستعار مهمل ورداء مشقوق، مسترخياً في جلسته، وواضعاً يديه في جيبيه، محدقاً في ذبابة عالقة في السقف. كان ذلك الرجل، واسمه سيدني كارتن، يبدو لا مبالياً بكل شيء، لكن اللافت للنظر أنه كان ذا شبه غريب بالمتهم.
كان على السيد لوري، ولوسي، والدكتور مانت أن يشهدوا في المحكمة، لأنهم حين عادوا إلى إنجلترا قبل خمس سنوات، كانوا على نفس المركب الذي وصل عليه المتهم. دمعت عينا لوسي، لأنها لم تصدق أن الرجل اللطيف الذي رافقهم في رحلتهم يمكن أن يكون جاسوساً. رد شارل على التهم قائلاً إن رحلاته إلى إنجلترا ذات طابع عائلي وليست للتجسس. واتهمه بالتجسس خادمه ورجل آخر يدعى جون بارساد.
تدخل سيدني كارتن
كان محامي شارل يستجوب أحد الشهود عندما رمى إليه سيدني كارتن فجأة بلفافة ورق. قرأ المحامي الورقة، ثم تابع استجوابه قائلاً: “تقول إنك واثق من أن الذي شاهدته هو المتهم؟” وكان الشاهد واثقاً من إجابته. سأل المحامي: “هل رأيت من قبل رجلاً يشبه المتهم؟” أجاب الشاهد: “لم أرَ من يشبهه لدرجة تمنعني من التمييز.”
أشار المحامي إلى سيدني كارتن، وقال: “انظر ملياً إلى صديقي هناك، ألا ترى شبهاً قوياً بينه وبين المتهم؟” وفي تلك اللحظة، قفز سيدني من مقعده ورفع شعره المستعار بانحناءة. لم يكن أمام الشاهد سوى أن يستسلم ويسحب شهادته، وبرئت ساحة شارل دارني.
حياة جديدة وعلاقات متداخلة
منذ ذلك اليوم، أخذ شارل دارني وسيدني كارتن يترددان على بيت الدكتور مانت ولوسي زائرين. لم يكن شارل يرغب في العودة إلى فرنسا، فعمل مدرساً للغة الفرنسية. بدأ يتودد إلى لوسي، التي كانت هي أيضاً معجبة به.
ومع ذلك، لم تكن الآنسة برس، مدبرة المنزل، راضية عن شارل، وكثيراً ما كانت تتمتم قائلة: “لا أريد أن أرى عشرات الشبان الفاشلين يأتون إلى هنا ويدورون حول الفراشة.”
عودة هواجس الدكتور مانت
كان تصرف الدكتور مانت غريباً. فعلى الرغم من أنه أحب شارل دارني واحترمه، إلا أن شيئاً ما أقلقه وأدخل في قلبه الروع. عادت إليه هواجسه التي كانت تدفعه للجوء إلى عليته، حيث يقضي الليالي يصلح الأحذية، في إشارة إلى أن هناك أمراً سيئاً يشغل باله.
سدني كارتن كان يحب لوسي أيضاً، لكنه كان يعلم أنه لا يملك ما يقدمه لها. هذا الأمر جعله يشعر بالغيرة من شارل دارني، لدرجة أنه كاد أن يبغضه، ليس فقط بسبب الشبه الكبير بينهما، بل لأنه لو لم يكن شارل في الصورة، لربما فاز هو بقلب لوسي. بدأ سدني حياته كمحامٍ نابغ، لكنه أهمل نفسه وعمله، ما أدى إلى تدهور حاله. عندما وقع في حب لوسي، شعر بالندم العميق لإهداره لفرصه ومستقبله.
في إحدى المرات التقى بسدني كارتن بلوسي وأدرك أنها ستتزوج من شارل، فباح لها بحبه. كانت لوسي معجبة بشهامته، ورجته أن يتوقف عن إهمال نفسه، ووعدته بأنها ستعتبره دائماً أخاً وصديقاً. نظر إليها بحزن وقال: “تذكري دائماً أن هناك رجلاً مستعداً أن يقدم حياته في سبيل إنقاذ من تحبين.” في ذلك الوقت، لم تفهم لوسي معنى كلماته.
الغضب في فرنسا
كانت العاصفة في فرنسا تتجمع، لكن النبلاء لم يصدقوا أن الفقراء يمكن أن يثوروا ضدهم. كانوا يعاملون الفلاحين كأنهم بلا مشاعر إنسانية. من بين أسوأ النبلاء كان المركيز أفر يموند، رجل ذو وجه شاحب مليء بالتعالي ومرتدياً ثياباً فاخرة. كان يسير بعربته في الريف بسرعة جنونية، والناس يتراكضون مدعورين من أمامه.
في أحد الأيام، صدمت عربته طفلة وجرّتها على الطريق. تجمع حول العربة فريق غاضب من الرجال والنساء. نزل المركيز ببرود وسأل: “ما الأمر؟” ورأى رجلاً طويلاً قد ارتمى على الأرض وتناول الطفلة الميتة وهو يصرخ كحيوان جريح. قال المركيز بازدراء: “لماذا كل هذا الصراخ المزعج؟ هل الطفلة ابنته؟ عليكم أن تتعلموا كيف تحافظون على أنفسكم وعلى أولادكم. أنتم دائماً تقفون في طريقنا.” ثم رمى قطعة نقود ذهبية وقال: “أعطوه هذه.”
ما إن انطلقت العربة حتى سقطت قطعة النقود في العربة، ما جعل المركيز يصرخ غاضباً: “من رمى هذا؟”
انتقام جاك
في تلك الليلة، وُجد المركيز مقتولاً في سريره بطعنات خنجر، وكان بجوار الجثة ورقة مكتوب عليها: “احملوه إلى قبره سريعاً. هدية من جاك.” كان “جاك” كلمة السر التي يستخدمها الفقراء فيما بينهم.
وفي أحد حوانيت باريس، جلست السيدة دوفارج خلف طاولة المدخل، كعادتها، تغزل الصوف، بينما كان الزبائن يلعبون الورق. جاء رجل من الريف وأخبرهم أن قاتل المركيز قد تم القبض عليه وأُعدم شنقاً. كانت السيدة دوفارج تحتفظ بسجل للأحداث كهذه، حيث كانت تسجل أسماء المسؤولين عن الشرور من خلال حياكة دقيقة.
زيارة جاسوس
دخل الحانوت يوماً جاسوس إنجليزي يُدعى جون بارساد، وهو الرجل الذي شهد في محكمة أولد بيلي، وسأل السيدة دوفارج عن حياكتها قائلاً: “تحوكين ببراعة، يا سيدتي.” أجابته ببرود: “لقد مارست ذلك طويلاً.”
ثم سألها الجاسوس: “هل لي أن أسأل لماذا تحوكين؟” أجابت: “أقطع الوقت.” وراحت أناملها تتحرك برشاقة. ثم سألها مرة أخرى: “ألا تنوين الاستفادة من حياكتك؟” تجهم وجه السيدة وقالت: “قد أفيد منها يوماً.”
أخبار جديدة وصداقة مفاجئة
وصل السيد دو فارج فتلقاه جون بارساد، وحدثه عن لوسي، ابنة الدكتور مانت، وأنها ستتزوج شارل دارني، ابن أخي المركيز القتيل أفريموند. عندما سمعت السيدة دوفارج هذا النبأ، راحت أصابعها تعمل بسرعة، وحاكت اسم شارل دارني في نسيجها، ثم لفت الصوف ووضعته بعناية جانباً.
حين سمع شارل بمصرع عمه، كان يستعد لعقد قرانه على لوسي. وهكذا، آل إليه لقب مركيز أفريموند، رغم كراهيته لعمه بسبب قسوته وسوء معاملته للفلاحين، الذين كان شارل يتعاطف معهم. أرسل شارل إلى وكيل أعماله طالباً عدم تقاضي أي أجر من الفلاحين، وأبقى هذا الأمر سراً بينه وبين الدكتور مانت، وظل يعرف بين الناس باسم شارل دارني.
تغلب سيدني كارتن على غيرته من شارل، وأصبح صديقاً مخلصاً للأسرة. وقد رحب شارل ولوسي بصداقة سيدني، لأنهما كانا يعلمان بأنه شخص شهم وطيب القلب. بعد زواج ابنته، أصيب الدكتور مانت بنوبة قاسية من هواجسه، فعاد إلى عليته ليصلح الأحذية. لكنه تدريجياً تغلب على محنته، وعاد ليعيش مع ابنته وأسرتها حياة هانئة. ومرت سنوات من هذه الحياة السعيدة، إلى أن حدث أمر كان مقدراً أن يغير حياتهم جميعاً.
تفاقم الأوضاع في فرنسا
زاد الوضع سوءاً في فرنسا، عندما ضربت مجاعة الريف الفرنسي الجميل، فقد كان موسم القمح شحيحاً ذلك العام. بات الخبز نادراً، ولم يعد الفقراء قادرين على الحصول عليه. لجأ الناس إلى البصل والأعشاب وأوراق الشجر، يصنعون منها خليطاً غريباً يأكلونه. زادت معاناتهم بفعل الضرائب الباهظة التي كان عليهم دفعها للدولة، رجال الدين، وصاحب الأرض التي يعملون فيها دون مقابل. في المدن، كانت الأوضاع لا تختلف كثيراً، فلا عمل ولا تبادلات تجارية، ولا طعام متوفر.
النبلاء ورجال الدين لم يكونوا يدفعون الضرائب، بل كان أبناء الشعب يتحملون أعباء تمويل قصور النبلاء، وملابسهم الفاخرة، وخدمهم. كان من المتوقع أن ينفجر الغضب الشعبي عاجلاً أم آجلاً، حيث كان الفقراء جائعين ونقمين، دون أن يقدم لهم أحد أي مساعدة. كان النبلاء يتمتعون بسلطة مطلقة على حياة الفقراء، حيث بإمكانهم قتل أو سجن من يعارضهم في الباستيل أو غيره من السجون.
اندلاع الثورة
بلغ الغضب الشعبي في أزقة باريس ذروته بفعل هذه الممارسات. ارتفع هدير مخيف في شوارع المدينة، وتجمعت حشود ضخمة مسلحة بكل ما أمكنها العثور عليه: سكاكين، قضبان حديدية، فؤوس، وحتى حجارة الجدران.
تجمع الجمهور حول حانوت دو فارج، الذي كان مركز التحرك، كما يجيش الإعصار. كان السيد دو فارج يصدر أوامره إلى “جاك الأول” و”جاك الثاني” و”جاك الثالث”. أما السيدة دوفارج، فكانت تحمل هذه المرة فأساً بدلاً من الصوف الذي اعتادت غزله.
صاح دو فارج بصوته الأجش القوي: “أيها المواطنون والأصدقاء، نحن جاهزون! إلى الباستيل!” اندفع الجمهور الغاضب بصوت هدير مخيف نحو السجن البغيض. لقد بدأ الهجوم. كانت النيران تشتعل، الدخان يتصاعد، الأجراس تقرع، والطبول تضرب. احتشد خمسة وعشرون ألف شخص، جميعهم من “جاك”، وتوجهوا بقيادة دو فارج وزوجته إلى قلب الهجوم على الباستيل.
سقوط الباستيل
ظل بحر الانتقام الرهيب يضرب أسوار سجن الباستيل طوال خمس ساعات، إلى أن رفع السجن علماً أبيض معلناً الاستسلام. اجتاح المد البشري المهاجم السجن بقيادة دو فارج، متجهين نحو الجسر المتحرك ثم إلى الداخل، والأصوات تهدر: “إلى الأسرى!”، “إلى السجلات!”، “إلى الزنزانات السرية!”، و”إلى معدات التعذيب!”
أما دو فارج، فكان له هدف محدد. صاح في وجه أحد السجانين قائلاً: “أرني الطريق إلى البرج الشمالي، الزنزانة 105!” فقاده السجان المدعور إلى الزنزانة التي كان الدكتور مانت محتجزاً فيها سابقاً. بدأ دو فارج بتفتيش الزنزانة بدقة، فعثر على أوراق مخبأة خلف حجر من حجارة المدخنة.
حدث ذلك كله في 14 يوليو (تموز) عام 1789. أقلقت الأحداث السيد لوري كثيراً، وعاد إلى لندن في عام 1792 حاملاً معه رسالة من باريس موجهة إلى المركيز أفريموند. عرض السيد لوري الرسالة على شارل دارني، على أمل أن يعرف صاحبها. قرأ شارل الرسالة وقال: “أنا سأوصلها”، دون أن يكشف عن حقيقته. وعندما كان بمفرده، فتح الرسالة وقرأها، ثم صاح: “علي أن أذهب إلى فرنسا حالاً!”
كانت الرسالة من وكيل أعماله، جابيل، الذي سُجن وطلب من شارل المساعدة. لم يستطع شارل تجاهل استغاثة وكيله، فانطلق في تلك الليلة إلى فرنسا.
اعتقال شارل في فرنسا
وصل شارل إلى فرنسا ليجد أن الشعب قد تولى السلطة وزج بالملك في السجن. لم يكن بإمكانه التجول بحرية دون تصريح يثبت أنه مواطن صالح. أوقفه حراس قساة يرتدون طاقيات حمراء واقتادوه إلى باريس. هناك، استوقفته الجموع الغاضبة وصرخت في وجهه، وتم تكليف المواطن دو فارج بالإشراف على أمره.
عندما رأى دو فارج أوراق السجين، أدرك الشخصية الحقيقية لشارل دارني. أرسله إلى ضابط آخر، الذي أخبره بأنه لا حقوق له بصفته نبيلاً، وسيتم سجنه في زنزانة منفردة. سأل دو فارج شارل إن كان قد تزوج حقاً من ابنة الدكتور مانت، وعندما أجابه شارل بالإيجاب، سأله دو فارج بدهشة: “وهل أنت مجنون لتعود إلى هنا وتعرض نفسك لخطر الموت تحت المقصلة؟”
أوضح شارل أنه عاد لمساعدة وكيل أعماله، وطلب من دو فارج إيصال رسالة منه إلى مكتب السيد لوري في باريس. لكن دو فارج رد بعبوس قائلاً: “لن أفعل شيئاً من هذا القبيل. إن واجبي هو تجاه بلدي.”
الزنزانة والانتظار
كان سجن لا فورس مكاناً مظلماً، كريهاً، تفوح منه الروائح الكريهة. مر شارل عبر غرفة كبيرة مكتظة بالسجناء من الجنسين، وكان هؤلاء من النبلاء الذين حافظوا على تصرفاتهم اللائقة وكبريائهم، حتى في ظل ظروف السجن القاسية. رغم ذلك، كانت ثيابهم الفاخرة سابقاً لا تليق بالمكان، وعلق شارل في نفسه قائلاً: “ما أشبههم بالأشباح! لا شك أنهم ميتون!”
أودع شارل في زنزانة منفردة، ومنع عنه أي أدوات للكتابة، ففهم أنه لا رجاء في عدالة أو رحمة، وأن الموت قادم لا محالة.
تصاعد العنف في باريس
في الساحة التي يشرف عليها مكتب السيد لوري في باريس، كانت تسمع أصوات مرعبة صادرة عن شحذ السكاكين والفؤوس، حيث كان العنف يزداد يومًا بعد يوم مع تصاعد الثورة.
وصول الدكتور مانت إلى باريس
دب الرعب في قلب السيد لوري وقال: “سيقتلون السجناء!” فجأة، دخل الدكتور مانت ومعه لوسي وابنتها الصغيرة. تساءل السيد لوري بقلق: “ماذا جرى؟ ما الذي جاء بكم إلى باريس؟” صاحت لوسي بفزع: “زوجي!!”
قال الدكتور مانت: “لقد كنت نزيلاً في الباستيل، فلا أحد سيتعرض لي في باريس. أتيت لإنقاذ شارل.” نزل إلى الساحة، فاستقبله الجمهور المتعطش للدماء بالهتاف. طلب منهم الدكتور إنقاذ شارل دارني، فحمله الجمهور بحماسة وساروا معه، بينما بقيت لوسي وطفلتها والسيد لوري في انتظار عودته.
عاد دو فارج في الصباح ومعه رسالة من الدكتور مانت. كتب فيها: “شارل بخير، لكني لا أستطيع الآن أن أترك هذا المكان.” رافق دو فارج زوجته، فاقتربت لوسي منها وقبلت يدها الباردة الثقيلة امتناناً. سألت السيدة دوفارج، وهي تشير إلى الطفلة بصنارة الحياكة التي بدت كأنها إصبع القدر: “أهذه ابنته؟” توسلت إليها لوسي قائلة: “ساعديني، أرجوك! اعتبريني أختاً لك.” أجابت السيدة دوفارج ببرود: “لقد رأينا أخواتنا يشقين طوال حياتهن، فلن يصيرنا أن تشقى أخت أخرى.” ثم غادرت وهي لا تزال تحوك بصوفها. أحست لوسي باضطراب شديد وقالت: “هذه المرأة المخيفة أدخلت اليأس إلى قلبي.”
الانتظار أمام السجن
أصبحت لوسي تأخذ ابنتها يومياً إلى الساحة المجاورة للسجن، حيث تمشي هناك وتنظر إلى نافذة زنزانة زوجها في الطابق العلوي. كانت السيدة دوفارج تراقبها باستمرار، وقد عقدت العزم على ألا تدع أحداً من أفراد تلك الأسرة ينجو من المقصلة.
كان النبلاء يُساقون إلى المقصلة في عربات تتوقف أمام سقالة عالية، ثم يُجبر الواحد منهم على الجلوس على ركبتيه وتثبيت رأسه على المنصة. بعد ذلك، يسقط نصل قاطع ثقيل بسرعة على عنق الضحية، مما يؤدي إلى فصل الرأس عن الجسد الذي يسقط في سلة. كانت السيدة دوفارج والنساء الأخريات يعدن الرؤوس المتساقطة دون أن يتوقفن عن حياكة الصوف، ويرددن: “المقصلة خير دواء للصداع.”
محاكمة شارل دارني
أخيراً، مثل شارل أمام محكمة الشعب. شهد في صالحه كل من الدكتور مانت، السيد لوري، ووكيل أعماله جابيل، مما أدى إلى صدور حكم ببراءته وإطلاق سراحه. حملته الجماهير المتحمسة إلى مكان إقامته. شعر الدكتور مانت بسعادة غامرة وقال لنفسه: “لقد تمكنت من إنقاذه.”
اعتقال جديد
لم تدم سعادتهم طويلاً، ففي تلك الليلة سمعوا قرعاً عنيفاً على الباب. دخل الغرفة أربعة رجال قساة يلبسون طاقيات حمراء ويحملون مسدسات وسيوفاً. قالوا: “نريد المواطن أفريموند، المعروف بدارني.” سأل الدكتور مانت: “من يريده؟” فأجابوا: “أعرفك يا أفريموند. رأيتك اليوم تمثل أمام المحكمة. ستعود إلى سجن الشعب مرة أخرى.” سأل شارل في دهشة: “ولماذا؟ ما الذي حدث؟” فأجابوه: “إنهم المواطن دو فارج والمواطنة دو فارج ورجل آخر.” سأل شارل: “أي رجل؟” ردوا: “غداً ستعلم، لا أستطيع أن أجيبك الآن.”
اقتيد شارل مرة أخرى إلى السجن، لكن هذه المرة إلى سجن كونسييرجيري.
لقاء غير متوقع في باريس
كان جري كرنشر، خادم السيد لوري، في مهمة أرسله بها سيده أثناء وقوع تلك الأحداث. فجأة، رأى في الطريق وجهاً مألوفاً. ناداه قائلاً: “أنت! أنا أعرفك! أنت الشاهد الكاذب في محكمة أولد بيلي – ما كان اسمك؟” فجاءه صوت آخر يقول: “بارساد.” كان المتحدث هو سيدني كارتن. ثم تابع قائلاً: “لقد رأيتك يا سيد بارساد تخرج من سجن كنسييرجيري منذ ساعة أو نحوها. إن لك وجهاً مميزاً. تبعتك إلى حانوت دو فارج وفهمت من الحديث طبيعة عملك. هل تأذن لي بدقائق من وقتك لتذهب معي إلى مكتب السيد لوري في المصرف؟”
شحب وجه الجاسوس بارساد، وقال وهو يحاول إخفاء خوفه: “أتهددني؟” كان بارساد يعمل سجّاناً في السجن الذي احتُجز فيه شارل دارني. خطرت لكارتن خطة ليستفيد منه، فقد كان هو وجري يعلمان عن ماضي بارساد أشياء تُدينه أمام المحكمة. لم يكن أمام الجاسوس خيار سوى الموافقة على ما طلب منه كارتن.
خطة سيدني كارتن
بعد ذلك، أبلغ كارتن السيد لوري بإلقاء القبض مجدداً على شارل، وطلب منه أن يعتني بلوسي. لكنه لم يحاول أن يراها بنفسه. بدلاً من ذلك، قضى الليل يتجول في شوارع باريس بحثاً عن بائع أدوية. أخيراً وجد واحداً واشترى منه مخدراً قوياً. قال كارتن لنفسه وهو ينظر إلى القمر: “ما عاد أمامي شيء أفعله الليلة، فإلى غد.”
اكتشاف الأوراق المفقودة
في الصباح، توجه كارتن إلى المحكمة، وهناك سمع اسم الشخص الثالث الذي وجه الاتهام إلى شارل. كان الشخص الثالث هو الدكتور مانت نفسه. لم يكن الدكتور مانت على علم بأي شيء عن الأمر، إذ قدم دو فارج الاتهام باسمه، مبرزاً الأوراق التي عثر عليها في زنزانة الدكتور في سجن الباستيل. كانت الأوراق تكشف هوية الأشخاص الذين تسببوا في سجنه، وكانت بخط يد الدكتور مانت.
كشفت الأوراق أن الأخوين أفريموند، والد شارل وعمه، كانا مسؤولين عن سجن الدكتور مانت. فقد تسببا في مقتل فتاة فلاحة بريئة وأخيها الذي حاول الدفاع عنها. وشهد الطبيب الحادث، فأرسل الأخوان أفريموند الدكتور مانت إلى الباستيل لضمان صمته. بما أن شارل هو الفرد الوحيد الذي لا يزال حياً من عائلة أفريموند، فقد كان عليه أن يدفع ثمن جريمة عائلته من حياته، رغم أنه لم يكن يعرف شيئاً عن الجريمة، وكان حينها طفلاً صغيراً.
الحقيقة المؤلمة
أخيراً، أدرك شارل لماذا أصيب الدكتور مانت بحالة من الاكتئاب الشديد عند زواج ابنته. فقد أخبره شارل بنفسه بانتمائه إلى عائلة أفريموند. كما فهم السبب وراء الكراهية التي تكنها له السيدة دوفارج، فالفتاة التي قُتلت وأخوها كانا شقيقيها.
قال السيد لوري لسيدني: “لا أمل، سيقتلونه.” أجاب سيدني: “نعم، سيقتلونه. لا أمل بالمعنى الصحيح.” ثم غادر كارتن، وبدا على وجهه وكأنه عازم على أمرٍ ما.
خطة سيدني كارتن لإنقاذ شارل
عندما عاد سيدني كارتن إلى مكتب السيد لوري، علم أنهم لم يتمكنوا من العثور على الدكتور مانت. فجأة، سمعوا وقع خطواته وهو ينزل من غرفة علوية، وبدا من هيئته أن المسكين قد فقد ذاكرته مجدداً، وعادت إليه هواجسه. كان يصرخ قائلاً: “ولا أجدها! أريدها الآن! أين هي؟” وكان يبحث عن عدة الإسكافي التي كانت الشيء الوحيد الذي أبعد عنه الجنون في السجن الرهيب.
قال كارتن مخاطباً السيد لوري: “لا يقدر على مساعدتنا الآن. من الأفضل أن تأخذه إلى لوسي. اسمعني وافعل ما أقوله لك. ستفهم لاحقاً أن لدي تفسيراً مقنعاً لما أطلبه منك.”
قاموا بتفتيش أمتعة الدكتور مانت، ووجدوا تصريحه للخروج مع ابنته من باريس. كان لدى سيدني تصريح أيضاً، فأعطاه للسيد لوري طالباً منه أن يحتفظ به. وقال: “سأزور شارل في سجنه الليلة، ولا أريد أن أخاطر بضياع التصريح مني.”
سأل السيد لوري: “أتظن أن لوسي والطفلة في خطر أيضاً؟” أجاب سيدني: “نعم، من السيدة دوفارج. عليك أن تكون مستعداً للسفر في الثانية من صباح الغد. أقنع لوسي أن ترتحل هي والطفلة والدكتور مانت معك. أخبرها أنك تنفذ رغبة شارل. انتظرني، وانطلق لحظة وصولي.”
تنفيذ الخطة في السجن
كان شارل دارني يقضي ليلته الأخيرة في السجن، يكتب رسالة وداع إلى زوجته، فقد كان يعلم أن رأسه سيكون من بين اثنين وخمسين رأساً ستسقط في اليوم التالي. بينما كان يكتب، سمع صوت فتح باب زنزانته، وبرز منه سيدني كارتن واضعاً إصبعه على شفتيه.
قال كارتن بهدوء: “أتيتك برسالة من زوجتك. افعل ما أقوله لك تماماً، ليس لدينا وقت نضيعه.” ثم تبادل معه الملابس وطلب منه أن يقلده في تسريحة شعره. بعد ذلك، طلب من شارل أن يكتب رسالة إلى لوسي من إملاء سيدني، تقول:
“ربما تذكرين كلمات كنت قد قلتها لك. حين ترين هذه الرسالة ستفهمين معنى تلك الكلمات. أحمد الله أن الوقت قد حان لأبرهن لك أنني كنت صادقاً في وعدي.”
بينما كان شارل منهمكاً في الكتابة، اقترب منه كارتن وسد وجهه بمنديل مشبع بالمخدر الذي كان قد اشتراه. سقط شارل على الأرض فاقداً الوعي. عندها، قام بارساد، الذي سمح لكارتن بالتسلل إلى السجن، بإخراج شارل، وبقي كارتن في الزنزانة.
الهروب من باريس
في تلك الأثناء، كانت عربة السيد لوري ولوسي والأسرة تغادر باريس، ومعهم رجل نائم يحمل أوراق سيدني كارتن، لكنه في الحقيقة كان شارل. ضحك الحراس على الرجل النائم، غير مدركين أن هذا الرجل الذي لم يعرفوا أثقل منه نوماً هو في الواقع شارل.
سأل السيد لوري الحراس: “أنذهب الآن؟” فرد الحراس: “اذهبوا. رحلة موفقة!”
اللحظات الأخيرة في السجن
في السجن، اقتربت صبية محكوم عليها بالإعدام من سيدني كارتن، معتقدة أنه شارل دارني، وطلبت منه أن يمسك بيدها عندما يذهبان إلى المقصلة. مد سيدني يده وأمسك بيدها برفق.
لحظات سيدني كارتن الأخيرة
مرت عربات الموت تجلجل في شوارع باريس بصوت جوفاء أليم، حيث كانت تحمل المحكوم عليهم إلى المقصلة. أحد المتفرجين صرخ: “أيهم شارل أفريموند؟” وجاء الرد: “ذاك الذي يمسك يد الصبية.” وتعالت الصرخات: “ليسقط آل أفريموند! إلى المقصلة أيها النبيل الشرير!”
دقت الساعة الثالثة. كانت المقصلة قد أُعدت، وتجمعت أمامها صفوف من النسوة يحكن الصوف بلا توقف. أُفرغت العربة الأولى، وبدأت الرؤوس تتساقط واحدة تلو الأخرى، بينما كانت النسوة تواصلن عد الرؤوس دون أن يتوقفن عن حياكة الصوف.
سيدني وكلمات المواساة للصبية
قال سيدني للصبية التي بجواره: “انظري إلى وجهي يا صغيرتي، لا تنظري إلى شيء آخر.” أجابته الصبية: “لن أخاف طالما يدك في يدي، لكن هل سيعجلون؟” رد سيدني مطمئناً: “سيعجلون، لا تخافي.” سبقت الصبية سيدني إلى المقصلة، ثم لمع النصل، وتعالت أصوات النسوة المحاكات: “اثنان وعشرون!”
خيالات سيدني كارتن
بينما تقدم سيدني نحو المقصلة، امتلأت عيناه بالخيالات. رأى لوسي وأفراد أسرتها وهم ينطلقون إلى إنجلترا بسلام. ردد في أعماقه: “ما أفعله الآن خير من كل ما فعلت في حياتي، وما أشعر به من راحة وسلام خير من كل ما شعرت به في حياتي.”
كانت هناك همهمات تبدو بعيدة، ووجوه تبدو كأنها في الحلم. ثم، كما لو كان في لحظة هادئة، انطفأ بريق كل شيء. تعالت أصوات النسوة من جديد: “ثلاثة وعشرون!”
النهاية
كوّن وجه سيدني ملامح سلام ورضى، وقيل فيما بعد إن أحداً لم ير على المقصلة وجهاً أكثر هدوءاً وسلاماً منه.
معرض الصور (قصة مدينتين)
استمتع بخيالك! هذه القصة لا تحتوي على صور، مما يتيح لك تخيل الشخصيات والأحداث بنفسك، لماذا لا تجرب أحد هذه الأفكار الممتعة؟
– ارسم مغامرتك: استخدم ألوانك وأقلامك الرصاص لتجسيد شخصيات القصة ومشاهدها المفضلة.
– اكتب فصلًا جديدًا: هل تعرف ما الذي قد يحدث بعد نهاية القصة؟ اكتب فصلًا جديدًا وقم بتطوير الأحداث